في السنوات الاولى للانتقال الديمقراطي التونسي وبعد فرار رأس المنظومة ورغم حالة الارتباك التي شهدتها " الدولة " تم بسرعة تدارك الأمر واصبحت البلاد كلما دخلت في أزمة صراع بين المكونات السياسية او العصابات المالية و مراكز النفوذ الجديدة والقديمة تلتجئ الى مرجعية " الدولة / النظام" والتي كانت تتعاطى مع قوى اجتماعية متهيكلة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ومع قوى سياسية متماسكة وحتى مع شخصيات وطنية وسيطة .
رغم ان التسويات كانت تتم بشكل مغشوش وغير استراتيجي وفي افق ضمان تقاسم سلمي للنفوذ الا انها كانت تحفظ قدرا من استمرار المرفق العام و استقرار البلاد .
لكن هذا الطابع المغشوش في التسويات هو ما جعلها في المقابل تسويات مؤقتة وغير منجزة للناس اجتماعيا واقتصاديا وهو ما ادى بشكل مطرد الى تاكل اطراف التسوية ( الطبقة السياسية والمجتمع المدني ) وانهيار الثقة فيها، بل وفتح الباب امام ترهل " الدولة / النظام " التي امتلأت بالهواة والانتهازيين الجدد وبقايا مراكز النفوذ المافيوزي القديم لتفقد بذلك " هيبتها" وقدرتها على "التحكيم" في فترات الازمة .
تفكك حزب النداء وانهيار الثقة في حركة النهضة وضعف الاتحاد العام التونسي للشغل والمجتمع المدني وانشغال الرعاة الدوليين بمشاكل عالمية اهم من " النموذج التونسي المتعثر " اضافة الى ترهل الدولة كممثلة للارادة العامة (روسو) او الارادة الموضوعية/ العقل ( هيغل) ادت بشكل مطرد الى ارتفاع الطلب على الخيارين الشعبوي والفاشي وتطوعت القوى الوظيفية لتسهيل طريق الخيارين برعاية مراكز النفوذ القديم او المراكز الايديولوجية المعنية بتصفية حسابها مع مخرجات 2011.
كان انقلاب 25 جويلية مع اندفاع رئيس شعبوي وتياره السياسي والقوى المتقاطعة معه الدواء المر الذي قبلته "دولة عاجزة " وقوى دولية تقاطعت مصالحها في اغلاق قوس انتقال "مقلق" لبعضها بتعثره و" مزعج " للبعض الاخر بما يمكن ان يفتحه لباقي المنطقة من " طموحات شعبية ديمقراطية " .
الدواء المر يظهر بعد سنة كاملة انه يلامس مرتبة السم القاتل ويبدو ان " جميع " من ارادوه ترياقا اصبحوا مرعوبين من تحوله الى عقار سيعمي العين الرمداء لتونس التائهة .
لكن المأساوي في الوضعية ان تونس التائهة هي الان عارية من كل مقومات التدارك : غياب كامل لكل مرجعيات التسويات الكبيرة ...لا عقل حاسم لدولة ترهلت تقف عاجزة وهي ترى اعضاءها تتساقط تحت سوس الشعبوية ..ولا نخبة سياسية او شخصيات وطنية او ثقافية يثق فيها الناس وتملك بهذه الثقة قدرة فرض الوئام الوطني ولا منظمات او احزاب تملك العقل والقوة لتذهب الى الحل الوطني المشترك والأهم من ذلك لا وجود لشعب يملك ما يكفي من هدوء ووحدة وطنية ليكون اداة الحسم العقلاني فقد نخرته الصراعات الغرائزية بين فئاته بعد طغيان الشعبوية .
هل سيذهب الوضع الى اقصاه في الانهيار ؟ نعم ..هذا تقديري ...قد لا يكون احترابا نظرا لما تمثله تونس شبه مستقرة من مصلحة لقوى عديدة ...لكن في المدى المتوسط لا افق لحل وطني يضع البلاد على طريق التسوية ...ولا عروض سياسية قادرة على ضمان جاذبية الوحدة الوطنية ...ارجو ان يكون تقديري خاطئا...