النقد الجذري للنهضة و سياساتها و مسيرتها امر مشروع ..بل بديهي و ضروري ..ما وجهه لها كثير من قياديها و ابنائها و نخبها اكثر جذرية و عمقا من انتقادات كثير من خصومها...لذلك لا مشكل في ما نقرأه من انتقادات متنوعة منذ ليلة البارحة عن المسيرة…
شيء واحد يقلقني و يملؤني شفقة على الحركة الديمقراطية ( المدنية الضد نهضاوية ) هو بعض تحاليل نخبها التي تنم عن كسل ذهني و استسهال ملاحظات بدون عمق من هذه النخب التي لاحظت انها تعيش حالة حقيقية من الانكار و العناد و تمنح اتباعها مسكنات نقدية لا تفيد شيئا في فهم اسباب انعدام التوازن في القوة بينها و بين " الاسلاميين " .
الغريب ان اعمق ما قرأت كان تدوينة للنائبة السابقة صبرين القوبنطيني و هي ندائية سابقة و لكن لا يعرف عنها انها من النخب الفكرية و الثقافية للحركة الديمقراطية الذين لم اقرأ لهم الا ما يشبه التنبيرات من نوع الاتهام اللاأخلاقي لألاف مؤلفة من الشعب التونسي كونهم خرجوا لحركتهم يوم امس بمقابل مالي او كقطيع رغم ان فيهم الالاف من المواطنين الطيبين و المثقفين الذين قد يفوقون عمقا و فكرا و انتاجا عقلانيا منتقديهم من نخب الحركة الديمقراطية و منهم كثير من " اكاديميا " بن علي الذين كانوا هم فعلا قطيعا أبستمولوجيا للاستبداد بالإثبات لا التخمين على عكس كثير من نخب و اكاديميا و عموم الشبيبة المتعلمة التي كانت البارحة في مسيرة حزبها و بعضهم كتب اعمق نقد لحركته و ساهم بكثير من المقالات و الافكار في تطوير المعارضة التونسية في فترات الاستبداد .
لا علينا ....هناك كلام كثير في الاستخلاصات النظرية و العملية العميقة لهذه المسيرة سلبا و ايجابا ....لكن السؤال الاول الذي اكتفي به الان و الذي تبادر الى ذهني و انا ارى حشود النهضة : لماذا ظلت حركات الاسلام الحركي ( السني و الشيعي ) في العقدين الاخيرين هي الاكثر قدرة على التحشيد و الاكثر قدرة على التقدم في الانتخابات كلما اتيحت لها الفرصة مقارنة بالحركات (المدنية ) ؟ ( حشود ح.ا.ل.ه في لبنان ..الحوثيون في اليمن ...طهران ...تركيا ...الخ ) ...رغم كثير من الانتقادات و الاخطاء التي ترتكبها هذه القوى ؟
هذا واحد من الاسئلة الكثيرة ..و لنا ملاحظات اخرى نوردها تباعا و مقسمة ...لعلنا نقول شيئا يفيد الحركة الديمقراطية الضد نهضاوية في ضجيج العناد و الانكار هذا عوض ان نبنن نوم اتباعها و فاعليها بهذه الثرثرات التي تنشرها نخبها الذين تحولوا اليوم و البارحة الى " مدونين " و فيراج …
من مصادر عليمة عدد حشود مسيرة النهضة فاجأت ايضا قيادات نهضاوية عارفة بوضع الجسم التنظيمي و الحركي للحزب و قارئة واقعيا لحجم الخيبات و الاختلافات الداخلية التي كان من المفروض ان تؤثر نسبيا على حجم الحضور . توقعات المتفائلين من القيادات لم تنتظر اكثر من 30 الف .
الانتقادات الجذرية للأخطاء و التعثرات من قيادات و اطراف مؤثرة في قواعد و انصار الجسم النهضاوي كانت كبيرة و كان من المفروض ان تؤثر في حجم الحضور لكن شيئا من ذلك لم يقع بل حدث العكس ...واجهت الحركة / نهضة الغنوشي من بيئتها الفكرية و السياسية انتقادات مهمة جدا :
اولا : نقد الضمور في البراغماتية المطلوبة اصلاحيا للحركة منذ المؤتمر العاشر في ضرورة تخفيض البعد الراديكالي للحركة و تطوير علاقتها بالدولة و المنتظم " العصري و الحداثي ( قاد هذا النقد لطفي زيتون و سمير ديلو مثلا بقطع النظر عن عدم انتمائهما لنفس الجناح ) .
ثانيا : نقد الضمور في الثورية و الانحياز للقوى الثورية في مقاومة الفساد و خفض العلاقة المبالغ فيها مع المنظومة القديمة ( عبد اللطيف المكي ...محمد بن سالم ...و عدد من شباب الثورة من الاسلاميين الراديكاليين ...بقطع النظر عن كونهم لا ينتمون الى نفس الجناح ) .
ثالثا : نقد الخفوت الهووي و السمت الاسلامي للحركة و الانزياح نحو التشاكل الحداثوي المزعج لجيل واسع من الرواد ( الجسم الدعوي : الحبيب اللوز و الصادق شورو الخ ) .
رابعا : نقد الخفوت التنويري و المراجعات الفكرية الاصلاحية لخطاب الحركة و الذي قادته الاكاديميا الجديدة و الحداثية لتيار الهوية القريب للنهضة او غير المعادي لها و المعني بتطويرها في افق مناقض للجسم الدعوي المذكور اعلاه ( سامي براهم ...بحري العرفاوي ..احميدة النيفر ..مهدي مبروك ...الخ ) .
خامسا : النقد الهيكلي و التنظيمي ذي البعد المضموني الذي يشتغل عليه القيادي الهام صاحب كتاب من الجماعة الى الحزب عبد الحميد الجلاصي و الدائرين في مجاله البشري .
سادسا : النقد الجذري من انصار الانتقال و الثورة من الحلفاء السابقين و من غير المعنيين بتهم الاستئصال ممن اشتغلوا على نقد ما اعتبروه الانحراف اليميني اللاثوري و اللاديمقراطي و ان بلهجات متفاوتة الحدة من يمين هؤلاء الناقدين الى يسارهم ( الامين البوعزيزي ..زهير اسماعيل ...محمد الحاج سالم ...الزموري ...الجليدي ...بن عبدالله عادل ..احمد الغيلوفي ....و المرزوقي اساسا وصولا الى طارق الكحلاوي و عدنان منصر و عدد من كتاب الزراع و نخب التيار الثوري و الديمقراطي و انصار الترويكا سابقا ...عذرا على نسيان اسماء كثيرة) .
السؤال الكبير :
لماذا تركت هذه الانتقادات جانبا حتى من انصار نهضاويين يتبنونها او يكتبونها و كان النزول حاشدا و كأن لسان حال البعض يقول : نعم انتقادات مهمة لكن الرئيسي في الخروج الى المسيرة. امر اكبر ؟
اقدر ان الامر لا يخرج عن الفرضيات التالية :
اولا: حجم العدوانية في الانتقاد " الاستئصالي الرسمي " تنزع عن " الضحية " كل شروط الشرف : الارهاب ...الفساد ...العمالة للأجنبي ...الجهاز السري ...سرقة التعويضات ...كذبة وجود نضال سابق ....اسلوب القديم في مواجهة الاسلاميين لم يتغير فاصبح وسيلة غبية لرص صفوف الاسلاميين و تعبئتهم بل و وسيلة غبية لجلب التعاطف الحقيقي معهم من كل من يحلل واقعيا مسار الانتقال الديمقراطي و خطر الفاشية و الوظيفيين و الشعبويين مقارنة بخطر النهضة ( مثلي انا مثلا ) .
ثانيا : احساس كثير من انصار النهضة بمن فيهم من خاب ظنه في " ثوريتها " ان النقد الموجه ليس فقط لخط الغنوشي و اسلوبه بل لكل الثورة و لكل الديمقراطية و اساسا لكل النهضاويين ...لا بل ان بعض الثوريين الذين تحولوا الى صف الاستئصال اصبحوا اصلا يرددون نفس سردية الاستئصاليين و لكن بلغة تحميل النهضة كل النهضة فشل " الثورة " و " المعركة مع الفساد " ...ليس اكثر اثارة للخوف من ان تتصور ان اسقاطك سيتم هذه المرة باسم " الثورة " و " الوطنية " و " مقاومة الفاسدين " ( خطاب التيار و ح الشعب و قيس سعيد ضد النهضاويين يتم بهذه السردية ) و ليس فقط باسم بن علي و النوفمبرية ( خطاب عبير موسي ) …
عندها تكون الفزعة كبيرة و التحشيد عظيما من مواطنين ناصروا النهضة و الثورة و كانوا ضحايا للاستبداد و الفساد و تتم محاكمتهم الان من " اصدقاء " سابقين. بتهم. " غير مشرفة " قد تصح على بعض قيادات و لكن لا تصح عليهم .. هذا الخطاب الذي لم يكن في الاشهر الاخيرة اقل عدوانية من خطاب الاستئصاليين جعل الالاف ينفرون خفافا و ثقالا لحفظ ستاتيكو اقل فداحة مما يتهمهم به و يبشرهم به بمزايدة بائسة خصومهم الحاليين من شركاء سابقين .ان خطاب هذا النوع من الخصوم وحد كل الحشود حول الغنوشي و خفض كل تاثير ممكن للناقدين له حتى من قيادات الحركة .
ثالثا : كل فرسان الانتقادات الصحيحة المذكورة اعلاه من قيادات الحركة و اصدقائها و رغم اقتناع جزء كبير من حشود الامس بانتقاداتهم لا يرونهم قيادات مطمئنة مثل الغنوشي الذي ينتقده الاف ممن خرجوا يوم امس و لكنهم يطمئنون لأسلوبه السياسي الناجح في حفظ السقف على رؤوسهم و على رأس البلاد بما يملكه من صفات " الاب " للبعض و " القائد " للبعض الاخر و " الداهية السياسي" للبعض الاخر ...اعتباركثير من حشود الامس للغنوشي ابا او قائدا او داهية لا يمنعهم في اعماق انفسهم من ان لا يوافقونه في خيارات عديدة و لكن في النفس البشرية " للناشط السياسي " لا يتم التسليم بالثقة في ابوة و زعامة و قيادة زعيم و قائد بمجرد جردة حساب لا تعثر فيها له عن خطأ واحد بل تسلم له فقط بمجرد احساسها انه اقل المخطئين و ان غيره ممن تعجبهم ربما تحاليله هو شخص لا يخطئ فتحبه كمثقف مليان معرفيا لكنك لا تسلم له بالضرورة قيادة معركة او حركة ....
هناك شيء يلامسه القائد في نفس الناشط السياسي او القاعدي العادي هو نيل الاطمئنان الى "سياقته" مثل راكب في سيارة حتى لو كان لا يحب سائقها .
و للتفكير بقية في ملاحظات اخرى ….