سردية الجديد وغير المسبوق في التاريخ وحل مشكلة الحكم للإنسانية عرف بها نظام الجماهيرية في ليبيا وكان يرددها باستمرار ويعقد لها الندوات الفكرية في جامعة قاريونس ويستدعي لتأكيدها المفكرين والاساتذة من امريكا اللاتينية بالخصوص للبحث في خصوصا في الفصل الثاني من الكتاب الاخضر …
من الجمل التي كنا نسمعها ونحن في سنين المراهقة اوائل الثمانينات من صوت الوطن العربي صوت اللجان الثورية ( بعد ان كان صوت الوطن العربي صوت الحرية والاشتراكية والوحدة ) قولة كانت تنسب الى ارسطو وهي في الحقيقة للمؤرخ " هيرودوت (س) " : الجديد يأتي من ليبيا .
هذا المؤرخ اليوناني كان يتحدث عن الحضارة الليبية القديمة باعتبار الليبيين القدامى اول من تعرف على افريقيا ومن ليبيا القديمة كانت تظهر الموضات الجديدة مثل طريقة تصفيف الشعر وطرق اللباس غير المسبوقة لدى الحضارات القديمة وقتها .
مقولة الجديد والاستباق في التاريخ والموعد الدائم معه والرسالة للإنسانية قاطبة و تقديم الحلول الجديدة والعلو الشاهق وغيرها من سرديات " البدء " من العدم هي من مقومات المشاريع الشمولية التي تقتبس سردياتها من النبوات وتضع الزعيم موضع النبي او نصف الالاه ...وقد كانت تسميات القائد المعلم او الزعيم الضرورة تماما مثل المجاهد الاكبر او صانع التغيير تنويعات اسمية على الفوهرر او الدوتشي او الشمس البازغة والاخ الاكبر …
التصورات الشمولية الوضعية الحديثة هي تماما كمثيلتها الالاهية القديمة تضع " الجديد " فعلا خارقا للفرد المتميز وتقتبس من فلسفات تقديس الدولة ذات المنحى الهوبزي او الهيغلي كثيرا من الرؤى المقدسة للحاكم باعتباره ممثلا للعقل المطلق و الارادة الموضوعية عوضا عن الارادة العامة ( الروسوية الديمقراطية ) و باعتبار عنف الدولة ضرورة مدنية لضمان الامن من العدوان الداخلي ولضمان السلم تصديا للعدوان الخارجي باعتبارهما غايتين للدولة عوضا عن الحرية كما تقتبس الشعبويات من الفلسفات الارادوية ( نتشه مثلا ) نشر الغرائزية وقيم القوة العارية التي يجسدها انسان اعلى .
هذه التصورات لا تنظر الى الجديد ( الخلق المستأنف ) بالتصور الخلدوني او حتى الماركسي الاصلي بماهو جديد تصنعه حتميات التاريخ و قوانين العمران البشري وسنن المجتمعات، بل تعتبر الجديد فعلا فرديا خارقا او في احسن الحالات فعلا لجماعة مصطفاة ومختارة على رأسها كائن رسالي يهبه الله للامة او للشعب فيثير غرائزها و يشحن مشاعرها لتحرق القديم و تقف على رماده لتصنع المستقبل باسم الله او الحقيقة او الطوبى .
بعد كل تحول جذري مثل الاستقلال الوطني او الانقلاب او الثورة تزدهر الشعبويات القاتلة ويمارسها الجديد كله ثم يتعقلن المسار شيئا فشيئا بفضل نخب البناء الوطني الهادئ لكن ذلك لا يكون الا اذا وهب التاريخ للأمم نخبا عقلانية لا نخبا مخترقة تركب مشاعر الدهماء لتتناحر باسمها ...ولله الامر من قبل ومن بعد …