في ما بعد السياسة .

الترتيب الدولي للمنطقة والصراع الرئيسي

أستمع أحيانا لتصريحات نشطاء وأنصار وبعض قيادات الانتقال الديمقراطي في تونس في توصيف أزمة توقف الحياة السياسية وعودة الحكم المطلق للدولة / السلطة مع غياب التعددية والانسياب الديمقراطي الذي شهدته البلاد في عشرية ما بعد جانفي 2011 الى ما قبل 25 جويلية 2021.

تبدو هذه التصريحات وكأنها تتم في أجواء القرن العشرين اثناء صراع الحكم والمعارضة في سنوات التسلطية التقليدية بين النظم والتيارات المناهضة لها .

تحدد هذه التصريحات علة الواقع السياسي في تشتت القوى السياسية كسبب من اسباب تعذر عودة الحياة السياسية التعددية والتنافس على الحكم وتعذر عودة الحريات الاعلامية والسياسية المفتوحة وتنتهي الى خلاصات سياسية تتمحور في الدعوات الى الصمود الكفاحي والنضالي و الدعوة الى اتحاد القوى السياسية وغيرها من المبادرات التقليدية التي كانت ترددها معارضات ما قبل الثورات في نضالها لفرض الديمقراطية والتعددية السياسية .

تقديري ان في الامر سوء تشخيص وغياب وعي بالعوامل التي انتجت عشرية الحريات ثم وضعت لها حدا وهي بالأساس عوامل موضوعية تتعلق بخيارات الدولة / النظام في 2011 بحكم سياقات دولية دفعتها الى القبول بخوض تجربة تحرير الحياة السياسية وهي نفس العوامل التي سوف تدفع الدولة الى خيار ايقافها .

حسب تقديري ، لم تكن اقواس الحريات السياسية والتداول الشكلاني للحكم والتي فتحت في دول "الربيع" اوائل العشرية الماضية نتاج قوة الطبقة السياسية او القوى الشعبية كما ادعينا نحن انصار الثورات بل كانت اقواس مخابر سياسية فتحت بإرادة القوى الفاعلة الحقيقية لتجريب الترتيب المطلوب سياسيا للمنطقة ولذلك لم يستحق اغلاقها لأكثر من ارادة هذه القوى الفاعلة نفسها ولم يكن بفعل شعبي او سياسي كما يدعي ايضا خصومنا من انصار اغلاق مسار الانتقال ممن ينسبون لأنفسهم او للشعب ما جرى في مصر في يوليو 2013 وفي تونس في يوليو 2021 وممن يطالبون الحكم الحالي لاعتبارهم شركاء في التغيير وبالتالي في الحكم .

اقدر بعد قراءة بعدية ان ما عرف بالربيع العربي لم يكن نتاج تغير موازين القوى بين الدولة ومجتمعيها المدني والسياسي بل كان احد السيناريوهات التي تم اعتمادها لتغيير متحكم فيه لمشهد سياسي تقليدي منغلق لم يكن قابلا للاستمرار ما لم يتم " تنفيسه " مؤقتا ليكتشف الناس من جديد بعد " مصاعب التنفيس " حاجتهم الى الدولة والنظام القويين بعيدا عن " الانفلات الديمقراطي " وهو ما تم عربيا بشكل سلس اذ استعادت الدولة " الوطنية / ما بعد الكولونيالية " مشروعيتها لتصبح طلبا شعبيا بعد " تجريب" حدود " الطبقة السياسية الجديدة " التي تم الالقاء بها في ادارة الحكم وسط زواريب منظومات دولتية عربية مجربة للحكم منذ اكثر من نصف قرن .

لا عيب في القول بذلك لأن كل الأحداث التي تتم في منطقتنا العربية منذ قرنين على الأقل كانت باستمرار احداثا متحكما فيها ومحكومة بميكانيزمات تتداخل فيها الارادات المختلفة التي لا تبدو فيها الارادويات الشعبية عنصرا اساسيا وهذا مفهوم بحكم طبيعة القرار وتعدد مصادره في منطقة مولى عليها تمثل مركزا للطاقة والامكانات الثقافية والمادية والجيوستراتيجية بما يجعلها مدار صراع دولي للهيمنة على العالم ...العيب هو ان لا نفهم ذلك ونتعاطى معه كنخب وطنية عربية تريد استعادة قرارها الوطني حكاما ومحكومين .

من المؤكد ان استعادة " الدولة العربية " للطلب الشعبي لها بعد سنوات " الحريات " كانت استعادة متعثرة تتميز ايضا بعدم الانجاز ولكن ذلك لن يذهب الى استعادة " الطبقة السياسية " للحكم او الفعل بل سيتم التنظير حاليا لإعادة ترتيب المنطقة بصيغ اخرى مختلفة تماما عما تفكر فيه النخب التقليدية واتصور ان مراكز التفكير الغربي بصدد ابتداع طرق ما فوق سياسية لإدارة " المستعمرات " في ما بعد "التسلطية" و"الديمقراطية" ولكنها هي نفسها لا تملك رؤية موحدة ونهائية ما يسمح لنخبنا الوطنية بأن تجد لنفسها مكانا لتقرير مصير منطقتنا .

اهم الاوراق المتاحة للنخب الوطنية اليوم هي " المقاومة " التي تتجلى فعاليتها في مناطق المواجهة والتماس مع " العدو " .

انها فعليا المواجه/ المحاور / المفاوض الرئيسي(بالقوة والصمود) لقوى الترتيب الدولي ولنجازف بالقول انها العنصر الوحيد " المربك " لبرامج الترتيب والقوى المتصارعة على منطقتنا والمغيبة لكل الفاعلين التقليديين من نظم حكم وقوى سياسية ( احزاب وتنظيمات مدنية).

دون هذا الوعي بطبيعة المرحلة سيبقى تفكير الفاعل السياسي العربي المناصر للديمقراطية والحريات يتحرك في صندوقه التقليدي : صراع حكم / معارضة .وستبقى اجاباته تقليدية : وحدة سياسية ..حوار وطني ...الخ .

لم استمع من اي سياسي تونسي مناصر لاستعادة الحريات والديمقراطية والتعددية السياسية خطابا يستوعب هذه اللحظة ويقدم مقترحه السياسي الداخلي بقراءة هذا الصراع الرئيسي اليوم الا اذا اعتبرنا ما يبرز في تحاليل البعض ان المقاومة مجرد اداة وظيفية في خدمتهم سوف تعيدهم الى طاولة التفاوض لنيل نصيبهم في الترتيب القادم تحت سقف القوى المهيمنة ( رؤية بعض الاسلاميين في علاقة بالتصور التركي لمخرجات الحرب الحالية) ...لا ليس هذا المقصود ...المقصود هو استحضار اللحظة باعتبار المقاومة هي قيادة الترتيب السياسي ومحددة سقوفه .

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات